الأربعاء، 5 يناير 2011

"الحياة كما قدِّمت لهم" رواية جديدة لزياد كاج

ببساطة مطلقة وعفوية، ينقلنا زياد كاج في روايته الجديدة "الحياة كما قدِّمت لهم" الى احياء برج البراجنة الشعبية والمكتظة بمزيج فريد من الفئات الشعبية والطبقات الاجتماعية الفقيرة والبائسة في اغلبها. بدون تكلف او زخرفة او تصن، وبشفافية وحب، ينقلنا زياد الى احياء مزدحمة بالابنية المتلاصقة، بفوضوية وعشوائية لا مثيل لها، الى احياء مليئة بتناقضات تستعصي على الفهم، الى احياء يتزاوج فيها الفقر المدقع بالسيارات الفخمة، والازقة الضيقة برائحة الغمة والفوارغ المحشية وباحاديث الجيران واسرارهم، الى احياء يتعايش فيها الخبث مع الطيبة والنشاط مع الكسل، والطموح مع الاحباط والقناعة مع الجشع، والطهر مع العهر والايمان مع الكفر، الى احياء تزدحم بالأعراس وبالمآتم وصور الشهداء، نسخة مصغرة عن عن كثير من مناط لبنان واحزمة الفقر المنتشرة حول عاصمة الحب بيروت.
ببراعة ادبية وبساطة الاسلوب، ينقلك زياد الى عوالم مجهولة وخبايا مجتمعات شعبية تحيا بالبؤس من غير ان تدري، ينقلك من عبد الناصر الى الامام موسى الصدر، الى بدايات النزوح من القرية الى احزمة البؤس. يمزج دقة الاحداث وروايتها باسلوب القصة من غير تكلف ولا عناء. يفيض القلم بالاحاسيس وحنين الذكريات الغارقة بالازقة الموحلة وعتم الطرقات. يمزج واقعية الاحداث بمشاكل الجيران، يدخل الى عمق الشخصيات فيحللها ويفسر سلوكياتها وتناقضاتها، ينسج العقدة ويجترح الحلول ببساطة شعبية وبصدق.
يؤرخ الاحداث ويسترجع الذكريات بدقة، من خطف الامام الى انفجار المارينز والمقر الفرنسي الى حادثة خطف طائرة ال TWA  المؤسفة وقتل احد ركابها، الى حرب المخيمات وحرب الاخوة، الى صور الشبان الذين قتلوا بلا قضية، الى قطاف موسم التحرير في ايار 2000 وختاما بنصر تموز 2006. ينقل صورة فساد المؤسسات والموظفين والشرطة والشعب معاً. يصور واقعاً مريراً وحرماناً مزمناً عاشته ولا تزال احياء مكتظة بالسكان، عاشت وفي وعيها ان هناك دولة ستاتي في يوم من الايام، وما زالت تبصر صورة هذه الدولة في مناماتها وهلوساتها. فهذا موظف او دركي يرتشي علنا وبكل وقاحة، وذاك مواطن يسرق الكهرباء (من الخط التحتاني) ويستبيح املاك الغير بلا رادع، ومصير الحي بكامله معلق على (حنفية البرجاوي بائع الحلوى)، مصدر المياه الوحيد للحي. صور واقعية للفساد العلني الوقح وللاهمال المزمن والمتعمد من ادارات الدولة ومؤسساتها، والذي يتركز بشكل خاص في هذه المنطقة واخواتها ولكنه بالطبع لا يقتصر على منطقة او فئة معينة في لبنان.  
زياد كاج ابدع في نقل الصورة لمجتمع "الضاحية" كما هو، كما ابدع في الشرح والوصف والتشريح الدقيق لمكونات هذا المجتمع (فهي ليست قصة "الشيعة" في هذا البلد، بل قصة "شيعة" من المنسيين والمهمشين الذين لم تطلهم نعمة التغيير وموائد الزعماء)، بل انه قصة تتكرر في كل يوم وفي اكثر من منطقة محرومة وحي مهمش في مختلف ضواحي بيروت، بل في بيروت ذاتها، بعيداً عن الداون تاون.
نقل زياد ما يقال خلف الابواب المغلقة وداخل المنازل المتقوقعة، بشفافية وصدقية مطلقة، عايش الاحداث ورواها كما يجب ان تروى، وهو بذلك كان ناقدا لاذعا، وقاصّا مبدعاً وشيِّقاً، وروائياً واجه الواقع المرير بكثير من السخرية والالتزام والواقعية. لقد التصق بسكان الحي الى درجة شعر تجاههم بتانيب الضمير عند مغادرته اياهم وتركهم يتشاطرون شظف العيش (ويلحسون مبرد الحرمان) كما قال هو. لقد كان (زكريا) محظوظاً اذ انتقل وعائلته للعيش في منطقة المريجة، لكنه بقي يعيش هموم ومشاكل الجيران في (حي المطلقات)، فكانت الرواية عربون وفاء لكل من عايش تلك المأساة اليومية. 
"الحياة كما قدِّمت لهم" رواية عن الآخر، عن معانات الآخر اليومية، عن بؤس ايامه وهمومه، يرويها الآخر بلسانه بكل صدقية وحب وتجرد، وهو بذلك يسقط القالب النمطي المطبوع سلفاً في اللاوعي عندنا، والذي نستخدمه في سلوكياتنا اليومية من غير وعي او ادراك مسبق، (اجاها عريس بس ... مش مننا ...شو مسيحي؟ ... لأ مش مسيحي، اجاها عريس سني)، بل نبني امجادنا وتاريخنا، بل حاضرنا ومستقبلنا وقراراتنا المصيرية ايضاً عليه. ففي اللاوعي عندنا كجماعات طائفية، نحن افضل واشرف واطهر واسمى وانظف من الآخر مهما كان هذا الآخر، بل ان اسوأ فرد منّا هو بالتاكيد افضل من اخير خيار الآخر مهما علا شأنه وسمىاعمله. هكذا نربي اولادنا ونحشي عقولهم بالهذيان يوميا داخل حياطين منازلنا وقلاع افكارنا المعلبة والمنتهية الصلاحية ايضاً (انظر التاريخ على قفى العلبة!). لقد اكتشف زياد (النعمة في اكتشاف انسنة الآخر من خلال العيش معه والاحساس بوجعه واحباطه)، فسقطت الصورة النمطية عن هذا الآخر، فاكتشف زياد انه يعيش مع اناس كسائر البشر من دم ولحم واحاسيس، ربما ننكرها على الآخر، فالآخر عندنا يعامل معاملة متميزة من قبل الدولة، والآخر لا يشاطرنا همومنا اليومية ولا يكترث ربما للأخطار التي تواجهنا، ونحن ولولا نحن ولولا ما قدمنا من تضحيات لما تمتع الآخر بهذه الامتيازات اليوم!. ربما يستسخف البعض بوصف "الاكتشاف"، اكتشاف الآخر، لكن في قرارة انفسنا نعيش استعلاءً واستبداداً نمطياً، يعيش في اللاوعي عندنا بل هو متأصل فينا، وليس من اليسير علينا اكتشافه او الاعتراف به، بل ويتطلب ذلك منا الكثير ويفرض علينا تضحية وسلوكا آخرين يستلزم التنازل عن كبرياء "الأنا والنحن"، ليس بالضرورة من خلال السلوك الفردي بل من خلال السلوك والذاكرة الجماعيين لمكونات الطيف الطائفي ايضاً.      
نطق زياد أخيراً، فتمخض عملا روائياً مبدعاً ومتميزاً،  عملاً فريداً "عن الآخر" بكل شفافية، يصور احداثاً يومية لفئات مختلفة مذهبياً، وحّدها الحرمان والاهمال والفقر المدقع. إنها مرآة صافية تكشف عرينا وتفضح قبحنا وما نحاول ان نخفيه عن بعضنا البعض كفئات متقوقعة ومنزوية داخل قوقعة فارغة من المعنى والمبنى والمضمون، "هودي واحد وواحد وواحد ..."، "العمى ليش هنّي بيخطلطوا ..."، "ومس زهرة شو اسلام ولا مسيحية، بدي اعرفها ..."، "وما كلكن أخوة يا أخوا..." كما يقول زياد الرحباني.
ولا يسعني في الختام الا ان اضم الى تحيتك، زياد، تحية ايضاً من صميم القلب لمن عاش ويعيش "الحياة كما قدِّمت لهم" بصورة يومية على (ابواب مدينة ادارت لهم ظهرها ولم تفتح لهم الابواب الا الى المستشفى او الى السجون) في الرمل العالي وحي السلم، ام في صبرا والطريق الجديدة والنبعة وبرج حمود، كما هي الحال ايضاً في كل مناطق لبنان المحرومة.
زياد، هلقد بكفي، ومن كل قلبي اتمنى لك التوفيق والف مبروك الاصدار الجديد.
نبيل منصور     
busfeir@gmail.com